خطف محمود خليل- قمع جامعة كولومبيا وتقويض الحريات تحت ضغط الصهيونية المتطرفة

في الثامن من مارس/آذار، شهدت جامعة كولومبيا حادثة مؤسفة، حيث قامت عناصر من وزارة الأمن الداخلي الأميركية (DHS) باعتقال محمود خليل، الناشط البارز والمفاوض السابق عن "مخيم التضامن مع غزة" في الجامعة.
محمود خليل، الفلسطيني المقيم في الولايات المتحدة بموجب إقامة دائمة، كان في طريقه إلى شقته الجامعية بعد تناول وجبة الإفطار، عندما اعترضه عناصر الأمن. أبلغوا محمود وزوجته الحامل، الدكتورة نور عبدالله، وهي مواطنة أميركية، بإلغاء "تأشيرته الدراسية"، زاعمين كذبًا وجود مذكرة توقيف بحقه. وعندما أظهرت زوجته بطاقة الإقامة الدائمة (الجرين كارد)، بدا الارتباك على العميل، وأجرى مكالمة هاتفية ليؤكد حقيقة وضع محمود القانوني، وحين حاولت محاميته التدخل، قُطع الاتصال بشكل فوري.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsجامعة كولومبيا تبرر تسوية مع إدارة ترامب بسبب الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين
جامعة كولومبيا تعاقب الطلاب المؤيدين لفلسطين
بعد حصوله على درجة الماجستير من "مدرسة الشؤون الدولية والعامة" في جامعة كولومبيا في ديسمبر/كانون الأول 2023، نُقل محمود قسرًا إلى مركز احتجاز تابع لإدارة الهجرة والجمارك (ICE) في لويزيانا، على بعد أكثر من ألف ميل، بهدف عزله عن زوجته ومحاميه وجميع معارفه، مع التهديد الوشيك بترحيله.
لم يكن محمود وحيدًا في هذه المحنة، فخلال 24 ساعة تحرك "مركز الحقوق الدستورية" بالتعاون مع "مشروع محاسبة تطبيق القانون" (CLEAR)، للطعن في اعتقاله واحتجازه التعسفيين. وفي يوم الاثنين، أصدر قاضٍ فيدرالي قرارًا بوقف فوري لإجراءات الترحيل، وحدد جلسة استماع عاجلة في محكمة مانهاتن يوم الأربعاء، وبعدها أتيحت الفرصة لمحمود للتواصل أخيرًا مع محاميه.
في أعقاب هذا الاعتقال المفاجئ، ضجت وسائل الإعلام المستقلة وشبكات التواصل الاجتماعي بموجة عارمة من الإدانات والاستياء والتحليلات القانونية والسياسية المتعمقة. وأشار العديد من المعلقين إلى أن محمود خليل، باعتباره مقيمًا دائمًا في الولايات المتحدة، يتمتع بجميع الحقوق القانونية المكفولة للمواطنين الأميركيين، باستثناء الحق في التصويت.
النائبة في الكونغرس، براميلا جايابال، أعربت عن قلقها البالغ في منشور لها، قائلة: "إدارة ترامب تستهدف بوحشية الطلاب الذين يمارسون حقوقهم الدستورية الأساسية، وهذا أمر غير مقبول على الإطلاق. ترحيل المقيمين القانونيين بسبب آرائهم السياسية يعد انتهاكًا صارخًا لحقوق حرية التعبير. من سيكون الضحية التالية؟".
من جهتهم، ادعى مسؤولون في البيت الأبيض أن خليل يشكل "تهديدًا لمصالح الأمن القومي"، دون تقديم أي دليل قاطع على "انتهاكه للقانون". ومع ذلك، لم يتمكنوا من توجيه أي اتهام رسمي أو تقديم أي دليل ملموس على ارتكابه جريمة.
ذكرت منصة الانتفاضة الإلكترونية (Electronic Intifada) بأنه "على الرغم من أن الحكومة قد تلجأ إلى إلغاء إقامة حاملي البطاقات الخضراء في ظروف استثنائية، إلا أنه لا يحق لها القيام بذلك بشكل تعسفي. يجب أن يتم إلغاء الإقامة الدائمة من خلال حكم قضائي صادر عن قاضي الهجرة، استنادًا إلى معايير قانونية واضحة وإجراءات قانونية واجبة، وهو ما يبدو غائبًا تمامًا في قضية خليل".
لم يتردد النشطاء المناهضون لسياسات الإبادة الجماعية في التحرك بسرعة، حيث خرج الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع مدينة نيويورك في الأيام التي تلت اعتقال خليل، للتعبير عن تضامنهم وتجمهروا بأعداد كبيرة أمام مبنى محكمة نيويورك. وفي يوم الخميس، تم اعتقال حوالي 100 شخص خلال اعتصام حاشد نظمته منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" داخل برج ترامب.
تأتي هذه الأحداث في أعقاب إعلان الرئيس ترامب عن التزامه بوقف التمويل الفيدرالي عن الجامعات المتهمة بـ "التسامح مع معاداة السامية"، وكانت جامعة كولومبيا في مقدمة هذه الجامعات.
في اليوم السابق للاعتقال، قامت إدارة ترامب بتقليص التمويل الفيدرالي المخصص للجامعة بمقدار 400 مليون دولار، زاعمة أنها "فشلت في اتخاذ خطوات ملموسة لمواجهة معاداة السامية". وسرعان ما أبدت الجامعة استعدادها للتعاون الكامل مع الحكومة الفيدرالية في استجابة لما وصف بأنه "خنوع ذليل لترامب"، وأعلنت عن "التزامها الراسخ بمكافحة معاداة السامية بكل الوسائل الممكنة".
أصدرت جامعة كولومبيا توجيهات صارمة لأعضاء هيئة التدريس والموظفين، تحثهم على "عدم التدخل" في عمل عملاء الهجرة والجمارك، حتى في الحالات التي لا يقدم فيها هؤلاء العملاء مذكرة اعتقال رسمية. وعندما تباهى الرئيس ترامب باعتقال خليل عبر منصته "تروث سوشيال"، هدد أيضًا بـ "ملاحقة المزيد"، ليس فقط في كولومبيا، بل في "العديد من الجامعات الأخرى في جميع أنحاء البلاد".
وكما هو الحال بالنسبة للعديد من الطلاب العرب والمسلمين، تعرض محمود خليل في اليوم السابق لاعتقاله غير القانوني لحملات صهيونية منظمة تهدف إلى التحرش والإساءة، وقد ناشد إدارة الجامعة التدخل لتوفير الحماية اللازمة، مؤكدًا أنه يتعرض لحملة "تشويه ممنهجة" عبر الإنترنت (doxxing)، وأوضح أن "هذه الهجمات قد أدت إلى إطلاق موجة من الكراهية والتحريض، بما في ذلك الدعوات الصريحة لترحيله وتلقي تهديدات بالقتل"، ولكن إدارة جامعة كولومبيا لم تستجب لنداءاته.
دأبت جماعات الضغط الإسرائيلية المتطرفة، مثل "مهمة الكناري" (Canary Mission)، على قمع حرية التعبير في الجامعات الأميركية لسنوات طويلة. وعلى الرغم من أن هذه المجموعة قد ادعت مسؤوليتها عن اعتقال خليل، إلا أن منظمة صهيونية متطرفة أقل شهرة يبدو أنها لعبت الدور الأبرز في هذه القضية.
تأسست هذه المنظمة في عام 1923 على يد أحد المعجبين بالديكتاتور الإيطالي موسوليني، وأُعيد إحياؤها في عام 2023، حتى أن "رابطة مكافحة التشهير" (ADL)، وهي إحدى جماعات الضغط اليهودية المعروفة، تصنفها كمنظمة تروج للكراهية والعنف.
تحمل هذه الجماعة المؤيدة للصهيونية المتطرفة، والتي تفاخرت باعتقال محمود خليل، اسم "بيتار-الولايات المتحدة" (Betar-USA).
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، نشرت صحيفة "نيويورك بوست" تقريرًا مطولًا يشيد بجهود "بيتار-الولايات المتحدة" في جمع قوائم بأسماء الطلاب الأجانب، وتفاخرت بتحديد هوية 30 طالبًا من دول مختلفة، مثل الأردن، وسوريا، ومصر، وكندا، والمملكة المتحدة، الذين يدرسون في بعض من أرقى الجامعات الأميركية، بما في ذلك جامعة كولومبيا، وجامعة بنسلفانيا، وجامعة كاليفورنيا، وكلية "ذا نيو سكول" للأبحاث الاجتماعية، وغيرها.
صرح رئيس المنظمة، روس غليك، بأنه يأمل في أن يمنح "الرئيس المنتخب ترامب" "كارهي إسرائيل… تذكرة ذهاب بلا عودة إلى بلادهم". تجدر الإشارة إلى أن صحيفة "نيويورك بوست" لم تذكر طبيعة هذه المنظمة أو تاريخها المثير للجدل وممارساتها المشبوهة، التي "تحاكي بشكل كبير تكتيكات ورموز الفاشية، بما في ذلك ارتداء القمصان البنية واستخدام تحيات خاصة".
تسعى منظمة "بيتار" جاهدة إلى التحالف مع جماعة "براود بويز" (Proud Boys)، المعروفة بسجلها الحافل في معاداة السامية والإسلاموفوبيا، بهدف معلن هو "مواجهة الجهاديين الإسلاميين". (يذكر أن قائد "براود بويز"، إنريكي تاريو، قد حُكم عليه بالسجن لمدة 22 عامًا بسبب دوره في أحداث العنف التي شهدها مبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني 2021، وقد أفرج عنه مؤخرًا بموجب عفو رئاسي أصدره ترامب).
مؤخرًا، تفاخرت منظمة "بيتار-الولايات المتحدة" في تصريحات لصحيفة "ذا غارديان" بأنها تمتلك "قائمة ترحيل" تضم آلاف الأسماء، والتي أرسلتها إلى مسؤولين كبار في إدارة ترامب، بمن فيهم وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي يُعتقد أنه صادق شخصيًا على اعتقال خليل. يشير التقرير إلى أن معظم الأسماء الواردة في القائمة كانوا يحملون تأشيرات دخول أميركية (وهو ما قد يفسر السبب وراء اعتقاد عملاء وزارة الأمن الداخلي أن خليل يحمل تأشيرة طالب، بدلًا من الإقامة الدائمة).
عادةً ما تتجاهل وسائل الإعلام التقليدية الحديث عن "بيتار-الولايات المتحدة"، لكن موقع "ميدل إيست آي" كشف النقاب عن أن هذه الجماعة تلاحق بنشاط الناشطين المؤيدين للقضية الفلسطينية، بمن فيهم اليهود الأميركيون الذين ينتقدون سياسات إسرائيل. وقد أبلغ خليل عن تلقيه رسائل كراهية تهديدية من أعضاء هذه الجماعة المتطرفة. كما تورطت الجماعة في تخريب الممتلكات الخاصة ودعت علنًا إلى "أعمال انتقامية شبيهة بأعمال الميليشيات ضد المحتجين الطلاب".
نشرت منصة "غلوبال نيوز هَب" (Global News Hub) مقطع فيديو يظهر فيه السيناتور جون فيترمان (عن ولاية بنسلفانيا) وهو يعبر عن "إعجابه" بالتهديد بقنبلة الذي أطلقه زعيم الميليشيا اليمينية المتطرفة روس غليك ضد فرع "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" في جامعة بيتسبرغ.
تم حظر منظمة "بيتار-الولايات المتحدة" من منصات "ميتا" بسبب هذه "النكتة" غير المسؤولة. كما أصدرت الجماعة تهديدات شبيهة بالإعدام للكاتب بيتر بينارت والعديد من الشخصيات البارزة الأخرى. والمفارقة العجيبة هي أن دعاة "بيتار" يزعمون أن الطلاب الواردة أسماؤهم في قوائمهم "يروّعون أميركا" ويهددون أمنها القومي.
لاحقًا، فقد روس غليك منصبه كرئيس لمنظمة "بيتار-الولايات المتحدة" بعد إدانته في نيويورك بتهم تتعلق بجرائم "الانتقام الإباحي". والغريب في الأمر أن معظم التقارير الصحفية لم تربط بين انحرافاته الجنسية وعلاقته بالجماعة الصهيونية المتطرفة اليمينية.
أكد العديد من المحللين، وبحق، أن الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في غزة تمثل التهديد الأكبر لحرية التعبير وحقوق الإنسان الأساسية في الولايات المتحدة. إن اختطاف محمود خليل، والقوى المتطرفة التي تقف وراءه، يكشف عن مدى التدهور الذي وصلت إليه الإدارة الأميركية الحالية، ويكشف عن تصرفاتها غير المسبوقة في انتهاك الدستور، والتي تمهد الطريق نحو الاستبداد والقمع السياسي.
وصف البروفيسور البارز في التاريخ اليهودي في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، ديفيد مايرز، إدارة الرئيس ترامب بأنها "تقوم بتسليح وتسييس معاداة السامية لأغراض سياسية بحتة". واعتبر مايرز قائمة "بيتار" للمرحلين "مرعبة ومروعة"، لكنها ليست مفاجئة بالنظر إلى ما تمثله هذه الجماعة تاريخيًا، أي "تبني نسخة متطرفة من الفاشية اليهودية".
وأكد مايرز أن هذه الهجمات الشرسة لا تهدف فقط إلى حماية الطلاب اليهود، بل إن الرئيس الأميركي وحلفاءه "معنيون حقًا بإخضاع الجامعة وإقصائها بشكل كامل من الساحة السياسية الأميركية، بوصفها جهة فاعلة تقدمية وليبرالية". إن تهديدات ترامب المتكررة التي تتجاوز القانون واعتقال محمود خليل يمثلان انزلاقًا متسارعًا نحو خطاب القمع السياسي والفاشية الكاملة.